فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يرجعوا في قبضة قدرتنا كما دل عليه قوله في سورة [الشعراء: 24- 25] {قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون} استعجابًا من ذلك.
وعلى هذا الاحتمال فالتعريض بالمشركين باق على حاله فإنهم ظنوا أنهم في منعة من الاستئصال فقالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32].
قرأ نافع وحمزة والكسائي {لا يرجعون} بفتح ياء المضارعة من رجع.
وقرأه الباقون بضمها من أرجع إذا فعل به الرجوع.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}.
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأنه رجوع إلى حكمه وعقابه، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده.
وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم.
وجعل في الكشاف هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله: {فنبذناهم في اليم} يتضمن استعارة مكنية: شبه هو وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر.
وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان فيه استعارة مكنية أيضًا لأنه يستتبع تشبيهًا بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} [الحاقة: 14] وقوله: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} [الزمر: 67].
ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى.
وقوله: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوته.
وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بحال دعوة موسى عليه السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة.
وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى: {فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات} [القصص: 36] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36] قالت قريش {بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء: 5]، وقالوا {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} [ص: 7] أي التي أدركناها.
وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكبارًا منه في الأرض سأل المشركون {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرًا} [الفرقان: 21] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)}.
عطف على جملة {واستكبر هو وجنوده} [القصص: 39] أي استكبروا فكانوا ينصرون الضلال ويبثونه، أي جعلناه وجنوده أئمة للضلالة المفضية إلى النار فكأنهم يدعون إلى النار فكل يدعو بما تصل إليه يده؛ فدعوة فرعون أمره، ودعوة كهنته باختراع قواعد الضلالة وأوهامها، ودعوة جنوده بتنفيذ ذلك والانتصار له.
والأيمة: جمع إمام وهو من يقتدى به في عمل من خير أو شر قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} [الأنبياء: 73].
ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار: خلق نفوسهم منصرفة إلى الشر ومعرضة عن الإصغاء للرشد وكان وجودهم بين ناس ذلك شأنهم.
فالجعل جعل تكويني بجعل أسباب ذلك، والله بعث إليهم الرسل لإرشادهم فلم ينفع ذلك فلذلك أصروا على الكفر.
والدعاء إلى النار هو الدعاء إلى العمل الذي يوقع في النار فهي دعوة إلى النار بالمآل.
وإذا كانوا يدعون إلى النار فهم من أهل النار بالأحرى فلذلك قال: {ويوم القيامة لا ينصرون} أي لا يجدون من ينصرهم فيدفع عنهم عذاب النار.
ومناسبة عطف {ويوم القيامة لا ينصرون} هي أن الدعاء يقتضي جندًا وأتباعًا يعتزون بهم في الدنيا ولكنهم لا يجدون عنهم يوم القيامة {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا} [البقرة: 167].
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}.
إتباعهم باللعنة في الدنيا جعل اللعنة ملازمة لهم في علم الله تعالى؛ فقدر لهم هلاكًا لا رحمة فيه، فعبر عن تلك الملازمة بالاتباع على وجه الاستعارة لأن التابع لا يفارق متبوعه، وكانت تلك عاقبة تلك اللعنة إلقاءهم في اليم.
ويجوز أن يراد باللعنة لعن الناس إياهم، يعني أن أهل الإيمان يلعنونهم.
وجزاؤهم يوم القيامة أنهم {من المقبوحين} والمقبوح المشتوم بكلمة قبح، أي قبحه الله أو الناس، أي جعله قبيحًا بين الناس في أعماله أي مذمومًا، يقال: قبحه بتخفيف الباء فهو مقبوح كما في هذه الآية ويقال: قبّحه بتشديد الباء إذا نسبه إلى القبيح فهو مقبّح، كما في حديث أم زرع مما قالت العاشرة: فعنده أقول فلا أقبّح أي فلا يجعل قولي قبيحًا عنده غير مرضي.
والإشارة إلى الدنيا ب {هذه} لتهوين أمر الدنيا بالنسبة للآخرة.
والتخالف بين صيغتي قوله: {وأتبعناهم} وقوله: {هم من المقبوحين} لأن اللعنة في الدنيا قد انتهى أمرها بإغراقهم، أو لأن لعن المؤمنين إياهم في الدنيا يكون في أحيان يذكرونهم، فكلا الاحتمالين لا يقتضي الدوام فجيء معه بالجملة الفعلية.
وأما تقبيح حالهم يوم القيامة فهو دائم معهم ملازم لهم فجيء في جانبه بالاسمية المقتضية الدوام والثبات.
وضمير {هم} في قوله: {هم من المقبوحين} ليس ضمير فصل ولكنه ضمير مبتدأ وبه كانت الجملة اسمية دالة على ثبات التقبيح لهم يوم القيامة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}.
خشي فرعون من كلام موسى على قومه، وتصوَّر أنه سيحدث لهم كما نقول غسيل مخ فأراد أن يُذكِّرهم بألوهيته، وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى {يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] يعني: إياكم أنْ تصدّقوا كلام موسى، فأنا إلهكم، وليس لكم إله غيري.
ثم يؤكد هذه الألوهية فيقول لهامان وزيره: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحًا لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} [القصص: 38] وفي موضع آخر قال: {ياهامان ابن لِي صَرْحًا لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} [غافر: 36- 37].
وكأنه يريد أن يُرضي قومه، فها هو يريد أنْ يبحث عن الإله الذي يدَّعيه موسى، وكأنه إنْ بنى صرحا واعتلاه سيرى رب موسى، لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئًا، مما يدل على أن المسألة هَزْل في هَزْل، وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم.
وإلا، فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبني بها الآن وعندهم الحجارة والجرانيت التي بنَوْا بها الأهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، إذن: المسألة كسب الوقت من الخَصْم، وتخدير الملأ من قومه.
وقوله: {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} [القصص: 38] وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله موسى أو لا يراه، يبادر بالحكم على موسى {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} [القصص: 38]؛ ليصرف ملأه عن كلام موسى.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} أي: تكبروا دون حق، وبغير مبررات للكِبْر، فليس لديهم هذه المبررات؛ لأن الإنسان يتكبَّر حين تكون عظمَته ذاتية فيه، أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فلا تتكبر بها، مَنْ يتكبر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه، كما يقولون اللي يخرز يخرز على وركه.
وكذلك في دواعي الكِبْر الأخرى: الغِنَى، القوة، الجاه، والسلطان. إلخ.
لذلك يكره الله تعالى المتكبرين، ويقول في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما أدخلته جهنم».
والكبرياء والعظمة صفة جلال وجمال لله تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء الله سواء، فلا يتكبَّر أحد على أحد ونرعى جميعًا مساوي في ظل كبرياء الله الذي يحمي تواضعنا، فلو تكبَّر أحدنا على الآخر لتكبَّر بشيء موهوب له، ليس ذاتيًا فيه؛ لذلك ينتصر الله لمن تكبَّرت عليه، ويجعله أعلى منك، وعندنا في الأرياف يقولون: اللي يرمي أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه.
والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعًا دونه، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الأرض بغير حق.
أما إنْ كان الاستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلاله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول حين يصف الحق- تبارك وتعالى- نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول: هذا حق. لأنه حماية لنا جميعا من أنْ يتكبَّر بعضنا على بعض.
وقوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} [القصص: 39] فاستكبارهم في الأرض جاء نتيجة ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى الله، وأنه تعالى خلقهم ورزقهم، ثم تفلَّتوا منه، ولن يعودوا إليه، لكن هيهات، لابُدَّ- كما نقول- لهم رَجْعة.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين}.
كأن الحق سبحانه لم يُمهلهم إلى أن يعودوا إليه يوم القيامة، إنما عاجلهم بالعذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} [القصص: 40] أي: جميعًا في قبضة واحدة، التابع والمتبوع {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} [القصص: 40] ألقينا بهم في البحر، وهذا الأخذ الذي يشمل الجميع في قبضة واحدة يدلُّ على قدرة الآخذ، وهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله القوي العزيز.
كما قال سبحانه: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
ولم يُوصَف أخْذ الإنسان بالقوة إلا في قوله تعالى يحثُّنا على أنْ نأخذ مناهج الخير بقوة: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 93].
ثم يقول سبحانه: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [القصص: 40] أي: نهايتهم وقد جاءت عجيبة من عجائب الزمن وآية من آيات الله، فالبحر والماء جُنْد من جنود الله، تنصر الحق وتهزم الباطل، وقد ذكرنا كيف أنجى الله موسى- عليه السلام- وأهلك فرعون بالشيء الواحد حين أمر الله موسى أنْ يضرب بعصاه البحر، فصار كل فِرْق كالطود العظيم.
فلما أنْ جازه موسى وقومه إلى الناحية الأخرى أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى؛ ليعود الماء إلى سيولته واستطراقه فيصُحِّح الله له ويأمره أنْ يدَعَهُ على حاله، فالحق- تبارك- وتعالى- يتابع نبيه موسى خُطْوة بخطوة كما قال له: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46].
وحاشا لله أن يُكلِّفه بأمر ثم يتركه، ولما رأى فرعون الطريق اليابس أمامه عبر بجنوده، فأطبقه الله عليهم، فصاروا آية وعبرة، كما قال سبحانه: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92].
وتأمَّلْ قدرة الله التي أنجَتْ موسى من الغرق، وقد ألقتْه أمه بيديها في الماء، وأغرقتْ فرعون.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)}.
أئمة: جمع إمام، وهو مَنْ يُؤتَم به، والمأموم أسيرُ إمامه، فلو كنا في الصلاة لا نركع حتى يركع، ولا نرفع حتى يرفع، فمتابعتنا له واجبة، فإنْ أخطأ وجب على المأموم أنْ يُنبِّهه وأن يُذكِّره يقول له: سبحان الله، تنبه لخطأ عندك، إذن: نحن مأمومون له في الحق فقط، فإنْ أخطأ عدَّلْنا له.